الشطرنج في الشعر العربي
تنازعت الشعوب والحضارات في
مسألة نسبة ابتكار لعبة الشطرنج إليها ، فكل يدعي أنه أول من وضعها وأوجدها
وابتكرها ، على أن الاكتشافات الأثرية الحديثة قد أثبتت أن الفراعنة وحضارات بلاد
ما بين النهرين قد عرفت هذه اللعبة في أشكالها البسيطة الأولى ، فقد عثر الباحثون
الأثريون على رقعة شطرنج في مقبرة الملك (توت عنخ أمون) عام 1930 م ، وعثروا كذلك
في (أور) في العراق على لوحة تشكل رقعة الشطرنج يعود تاريخها إلى ثلاثة الآف عام .
وكانت لعبة الشطرنج في
العصور الوسطى، لعبة الأشراف، في الشرق والغرب ، وقد عرف العرب الشطرنج ، و تفننوا فيها سواء في لعبها أو في صنع أشكال
رقعها التي كانت تخرج بها، كالأشكال الدائرية والمربعة و المستطيلة لرقعتها وفي عدد مربعاتها ، أو في فخامتها كصنع
رقعتها مذهبة أو صنع حجارتها من العاج والأبنوس وسواهما من المواد .
وأولع الكثيرون من خاصتهم وعامتهم
بها ، فبرز منهم "الشطرنجيون" الذين أولعوا بها واشتهروا بالحذق
والمهارة في لعبها . حتى غلب على اسم بعضهم
لقب "الشطرنجي" كأبي بكر الصولي الشطرنجي ، وقد ذكر اليافعي في (
مرآة الجنان وعبرة اليقظان ) : " وكان أوحد وقته في لعب الشطرنج ، ولم يكن في
عصره مثله ، فيقولون لمن يبالغون في حسن لعبه : فلان يلعب الشطرنج مثل الصولي "
.
وأورد صاحب الدرر الكامنة
أن الشيخ بدر الدين أحمد بن محمد الصاحب الفقيه الشافعي قد مهر في الشطرنج ، إذ
قال :
لي في الشطرنج علم
أتقن الإدمان حفظه
ألـعب الغائب منها فــأراه طبقاً يقظه
بل لقد أورد بعض الكُتاب
أبواباً أفردوها لمن اشتهر بلعب الشطرنج ، كما فعل الثعالبي في كتابه (التمثيل
والمحاضرة) الذي أسمى أحد أبوابه الشطرنجيون .
وممن اشتهر بلعبها من
المشاهير الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك الذي مولعاً بها والخليفة العباس أبو
جعفر المنصور و الخليفة هارون الرشيد الذي أهدى إلى شارلمان رقعة شطرنج ، وابنه
المأمون الذي أحب الشطرنج ، وكذلك المكتفي والراضي الذي أصبح مضرب المثل في لعبها
. وقد لعبها أبو العلاء المعري على الرغم من فقد بصره .
ومن أبطال هذه اللعبة
البارزين " محمد البيدق " الذي
عاش في العصر العباسي ، ولقب بالبيدق لقصر قامته .
ومن طريف ما يروى في هذا
المجال حكاية الوزير ابن عمار وزير المعتمد بن عباد الذي استطاع رد الملك ألفونسو
عن عزمه المسير إلى أشبيلية والاستيلاء عليها بعد مباراة بينهما في الشطرنج على رقعة
فاخرة كان قد حملها هدية من المعتمد إليه ، وكان ابن عمار بارعاً في لعب الشطرنج ،
وكان قد اشترط عليه قبل اللعب أن يخضع المغلوب إلى رغبة الغالب ، فلما حطم ابن
عمار غرور ألفونسو بأن غلبه اشترط عليه أن يرجع عن غزو أشبيلية ، وخضع ألفونسو
لطلبه ولو إلى حين .
وقد وصف (هارود لامب) في
كتابه (الحروب الصليبية) لعب الدمشقيين بالشطرنج في عهد نور الدين زنكي الذي نعمت
دمشق بالأمن في عهده في فترة الهدنة التي عقدها مع الصليبيين عام 1169 م .
الشرع والشطرنج
لم يرد في الدين نص يحدد
تحريم الشطرنج بحد ذاته، كما ورد في النرد ، وقد أباح بعض العلماء لعبها بشروط
منها : عدم تأخير الصلاة عن وقتها ، و ألا
يختلط اللعب بالقمار ، و حفظ اللسان من
فحش القول ورديء الكلام .
وممن أجاز لعبها مع الكراهة
الإمام الشافعي ، فقد ورد في كتابه (الأم) :" يكره من وجه الخبر اللعب بالنرد أكثر مما يكره
اللعب بشيء من الملاهي ولا نحب اللعب بالشطرنج وهو أخف من النرد ....... ......
"
بل لقد رد شهادة لاعبها ولم
يقبل شهادته بقوله : " فأما إن قام رجل بالحمام أو بالشطرنج رددنا بذلك
شهادته " .
غير أنه قد ورد (فضائل الشافعي ) للقطان : "أن الشافعي لم يكن
يرى بها بأساً وكان يلعب بها استدباراً ".
ولكن الرأي الثاني الذي
ذكره القطان هو المعتمد في المذهب.
وورد في المستظرف أن من
الذين أباحوها عبد الله بن عباس ، وأبي هريرة ، وهشام بن عروة وابن سيرين وسعيد بن
جبير .
وورد كذلك عن سهل بن سهيل
أنه قال مبيحاً لعبها : " إذا سلم المال من الخسران ، والصلاة من النسيان ،
فذلك أنس بين الخلان ".
وقد أجاب الشعبي سائله عنها بقوله : " لا بأس إذا لم يكن هناك
تقامر وتبذل ".
الشطرنج في الشعر العربي
تناول الشعر العربي قديمه
وحديثه الشطرنج ومعاركها ورقعتها وحجارتها بالوصف والتفصيل المادي من جهة ، بل
وأفرد لها بعض الشعراء العرب قصائد تتعدى المائتي بيت أو مقطوعات شعرية تتناولها و دلالاتها مسقطة رمزيتها
على الواقع .
ومن الذين تناولوا الشطرنج
في قصائد منفردة الشاعر أحمد بن حسين الكيواني الذي كتب أرجوزة في الشطرنج وملحها
بلغت أبياتها 204 أبيات ، فصَّل فيها لعبة الشطرنج وأحكامها قال فيها :
فهذه أرجــوزةٌ مُزدَوجَه
في مُلَحِ الشطرنج جاءَت مُبهِجه
بِكرٌ ولكـن الكتاب خِدرُها
ومن ذوي الفضل القبول مَهرُها
خالصةٌ تَمشِي على استِحياءِ
مـن خَـشية الفقدِ إِلى الأكفاءِ
جامعةٌ في كلِّ بيـتِ شِعر معنىً رقــيقا تحتَ لفظِ حُرِّ
ثم ذكر فيها أن الشطرنج من
ابتكار الهنود كما أن النرد من ابتكار الفرس ، وعرج فيها إلى رمزية كل من اللعبتين
، فالشطرنج يرمز إلى القول بالاختيار والكسب ودور العقل في الاختيار بحرية ، في
حين ترمز النرد إلى الجبرية والحظ ، وعدم قدرة الإنسان على الاختيار:
قد وضعَ الشطرنجَ أهلُ الهِند
ونَـظـرَتهُم فارسٌ بالنَّرَّد
كأنما الهنديُّ أومى في القدر
إِلى الذي بطلاتُه قد اشتَهَر
واضـعُ النَّرد من
الجبرية ليس يجيـزُ الكسبَ بالكلية
فإنَّــهُ خُلاصةُ التَّوحـيد
الواضـحُ الـبرهانِ بالتأييد
وإنما للـعبد نوعُ كَـسب عن حكمة الفرد المريد ينبي
ثم يدخل الكيواني بعد ذلك
في وصف لطيف للعبة الشطرنج :
نهارُها حربٌ بـلا وِفاق
ولـيلُها ينـضَّمَّ و الـعِناقِ
تَقتُلُ ثمَّ بالاكــفِّ تُقبَرُ على مدى السَّاعات ثم تُنَشَرُ
لها اجتماعُ كلُّه عـراكً
وسـكـناتٌ كـلُّها حِرَاكُ
ولم ينس الكيواني بعد ذلك
الحكم الشرعي لهذه اللعبة ، فيذكر نهي الشرع عنها لكونها من جملة الملاهي ، ولكن
هناك فسحة يمكن لنا من خلالها إجازة لعبها ذكر فيها أن الإمام الشافعي أجازها بشروط
من ضمنها : عدم الإخلال بحفظ الواجب ، والابتعاد عن المقامرة ، بالإضافة لكونها
رياضة فكرية :
لكنَّ فـيه فـسحةً قـد
تُقبَل عـن الإمامِ الشافعي تُنقَل
من غير إخلالٍ بحفظ الواجبِ
ولا قمار وهو سمُّ الكَاسبِ
وكـونُـهُ رياضـةٌ للــفِكرِ
يَقبَلـُهُ الـعقلُ بِغَير نُكرِ
ومن محاسن الشطرنج التي
يذكرها الكيواني أنها تلهي المرء عن المهاترات و ترهات الفخار ، كما أنها ملهاة
للمحزون عن مصيبته ، وتسلية لوحشة ليل الشتاء الطويل ، بالإضافة إلى أنها تسب من
يزاولها النباهة ، و تبتعد بالمرء عن النميمة والغيبة ، وغير ذلك من مزاياها التي
يذكرها في أرجوزته .
وينطلق الكيواني بعد ذلك
ليفصل في الشطرنج وأحكامها ، فيبين أنها عبارة عن جيشين : أحدهما ساميٌ والآخر
حاميٌ دلالة على لونيها الأبيض و الأسود كونها ترمز للصراعات البشرية ، والتدبير
فيها لرئيسين مصنوعين من العظام ، أي ملكين من عاج أو عظم ، وليس من شيمهما اقتراب
كل منهما من صاحبه ، وليس هناك من هدنة بينهما يحتلان رقعة بقدر ذراع بصمت وصبر
وخدع دونها وقع الأسل .
ثم يذكر أنه يحق في هذه
اللعبة حتى للبيدق المحتقر وهو الحجر الأقل شأناً من بين قطع الشطرنج أن يحسم المباراة
لصالح أحد الخصمين .
والشاه هو القطعة المقصودة
بهذه الحرب ، والحرب بها معقودة ما دام في جيشه بأس ، إلا إذا لم يتبق هناك قطع :
مُفَوّض التدبــير بالــتزامِ إِلى رئيـسـين مـن العِظامِ
وليس يَـدنُو ملكٌ من
صاحبه وَلاَ يَـرَى الهُـدنةَ من مَذاهبه
يجتــمعان الدَّهـرَ في ذراعِ
في مثلهِ لكــن مع القـِرَاعِ
صمتٌ وصبرٌ و كفـاحٌ لم يزل
وخدعٌ من دونـها وقعُ الأسَل
حتى إذا مـا بَـيدَقٌ تَـفرزَت
واحـتـقرَ الأقران فاشتدَّ العَنَا
لم يلبثِ الدسـتُ به أن يَبطُلا ويهدم المـجدَ وتَـسمَح العلا
فالشاه فهي القطعة المقصودة
بالذات و الحـرب بها مَعقُودة
مادامَ في جنُوده فـلا رَهَـق
إلا إذا لـم يبق فيهم ذو رَمَق
ويبين بعد ذلك أن الفرزان " أي الوزير" هو القطعة
الرئيسة القوية في الشطرنج ، لأنه الحامي للقطع الأخرى ، ويجمع في حركته كل
حركاتها باستثناء حركة الفرس ، ومن صاد الوزير استبشرا " لأن كل الصيد في جوف
الفرا " .
والبأسُ كلّ البأس في الفرزانِ
وزيرُ ذاك الـملكِ المـِعوان
يحمي ماكان وســط الرُّقعة
ببـأسِه مـن دون كلّ قطعة
من صادهُ تاه به و اسـتَبشرا
لأنَّ كلّ الصَّيد في جَوف الفرا
ثم يذكر بعد ذلك بقية القطع
والحجارة ذاكراً دورها في هذه الحرب التي من صفاتها أنها حرب سلاحها العقل والفكر
لا الأسلحة والسيوف .
وبعد أن ينتهي الكيواني من
ذكر قطع الشطرنج ودورها وأحكامها يذكر آداب الشطرنج وآداب لاعبها لمن يود العناية بها
، ومنها الهزل أحياناً للتخفيف من الجد الزائد خلال المعركة ، ومنها كذلك
الحذق والصمت والتأمل والصبر والسكون
والتأني وفراغ البال وعدم الإكثار من الكلام واللغط لأنه مجلبة للغلط .
ولا يحسن اللعب بالشطرنج
لعجول أو غضوب أو ملول ، وهي صفات الضد لما سبقها من الصفات ، فبين العجول والصواب
حاجز ، ولا بد من الندم لمن تعجل :
والهزلُ أحياناً اليـه يـجـنحُ والحذق في كلِّ الأمـور يمدَحُ
من الشروطِ الصـمتُ والتأمُّلُ
والصبرُ والسـكـونُ و التمهُّلُ
لا بدّ فيهِ من فــراغِ الـبالِ بعد مكـانٍ مـن ثـقيل خـال
وحيثُ يكثر الكــلامُ واللغَط
لا يظهر الصوابُ بل يبدو الغَلَظ
لا يحسـن اللعب به
العجولُ ولا غـضـوبٌ لا ولا مـلـولُ
بين العجولِ والصوابِ حاجزُ
ولا يصيــب الـرأيَ الأعاجزُ
ويذكر كذلك أن من المكائد
والحيل في الشطرنج أن يضحي اللاعب بحجر من قطعه لتكون "شركاً " يقع فيه
الخصم ، مع مراعاة التفكر في عاقبة اللجوء إلى مثل هذا الإجراء ، ومن الشروط كذلك
عدم الهلع والجزع إذا ما خسرت قطعة ما أو إذا ما أحيط بالشاه من كل جهة :
لا تبخلن بقـطعة ذمـيـمـة
إن أُوقعت مكيدةٌ عـظيمة
لكن بشرطِ الفكرِ في العواقبِ
والنظرِ المنتجِ للمـطـالبِ
لا تـك مـمن يستفزه والهلع
أو يزدهيه بيدقٌ من الطمع
وشاهه بها المنونُ أحـدقَت إن لم تكن ماتَت فقد نَجـت
ومن المعايب التي يذكرها :
الصياح المزعج ، وكثرة الإطراق في التفكير ، وفقدان الروح الرياضية عند اشتداد
" الملحمة " ، فترى عينيه
حمراوان " كالمحجمة " .
ومن العيوب الأخرى أن يأمر
اللاعب الحضورَ بالصمت ، ثم هو يخالف ما يطلبه من الآخرين ، فيهذر عندما يصمتون ،
ومنها: الشتم عند الهزيمة ، وهذا النوع " ساقط لا يصحب" ، وكذلك كثرة
الحلف وعدم الرجوع عن الخطأ :
ومن عيوبِ اللاّعب الإملالُ
بالـخَطِّ الـرُّقعَةِ والإعجالُ
وبعضُهم يُمعِنُ في الإطراقِ
كـأنَّه يـنظرُ في الأَفـاقِ
وبعضهُم يَرمُقُ عند الملحمَة
بمقلةٍ حمراء مثل المحجمة
ومـنهم من بالسكوت يأمُرُ
فيسـكت الجلأس وهو يَهذُر
وبعضهُم يَشتِمُ حين يُغلَبُ
ومثل هذا ساقطٌ لا يُصحَبُ
وبعضهُم يحلفُ أو يحلِّفُ ويـعرفُ الذَّنب ولا يَعتَرِفُ
ومن جملة الآداب الأخرى :
التبسم للفائز ، وعدم الضيق من الملح والملاحظات والتعليقات التي يطلقها الجمهور
،وإن كان بعضها موجعاً :
لا بـدَّ للغـالبِ مـن تَـبَسُّمِ بحسب الأعجـاب أو ترنّم
أو مُلَحٍ تأتيك مـن أشــعار
مـؤلمةٍ كالقَرص بالأظفَارِ
فلا يضق منك هناك الصَّدرُ وليَجمُل الصبرُ وأين الصبرُ
ومن النواهي التي يختم بها
الكيواني إرجوزته ملاعبة ذوي العقل فقط ،
وعدم ملاعبة التائه العربيد ، أو البذيء المماري الذي تضطر لمداراته ، وكذلك من
الآداب : الاستغفار بعد اللعب ، وعدم الإفراط في المزاح ، وعدم التعرض لعيوب الخصم
.
ومن ناحية أخرى فقد تناول
الشعر العربي قديمه وحديثه الشطرنج ومعاركها ورقعتها وحجارتها بالوصف والتفصيل
المادي من جهة ، أو متناولاً دلالاتها مسقطاً رمزيتها على الواقع من جهة أخرى .
ومن الشعراء من تناولها
بالمدح معلياً من شأنها وشأن لاعبها ، ومنهم من تناولها بالذم والقدح بوصفها لهواً
وملهاة عن البر ، فقد ذكرها ابن الرومي بقوله :
تفرَّستُ في الشّطرنج حتى عرفتها فإن صحَّ رأيي فهي بالوعةُ العقلِ
إليها يُغيضُ العـقلُ ما شابَ صفوه مـن الهَذياناتِ الشنيعةِ والهَزلِ
و كتب
ابن المهدي لأبي يعقوب الخريمي في الشطرنج :
وخيل قد رأيت إزاء خـيل
تساقي بينها كأس الـذباح
بميــمنة وميـسرة وقلب
كتـعبئة الكتائب للـنطاح
إذا ما قتلوا نشروا وعادوا
صحاحاً لم يصابوا بالجراح
بغير عداوة كانت قديـماً ولــكن لتـلذذ و المزاح
وهي عند إبراهيم ناجي ميدان
التباري بالعقل والفكر :
هاكَ ميـدان الـتباري بالــعقول النيراتْ
إنه الشـطرنج لـعبُ قائم
بالـبـيـناتْ
لعبٌ عـزم و حساب لعب
صبر والتفاتْ
لعبٌ حرب في سلام بالجيوش
الزاحفاتْ
وجلس المتنبي عند ابن عمار
يراقبه وهو يلعب بالشطرنج ، وكانت السماء تهطل بغزارة فقال:
أَلَم تَرَ أَيُّها المَلِكُ المُــرَجّى عَجائِبَ ما رَأَيتُ مِنَ السَحابِ
تَشَكّى الأَرضُ غَـيـبَتَهُ إِلَيهِ وَتَرشُفُ
ماءَهُ رَشفَ الرُضابِ
وَأَوهِمُ أَنَّ في الشِطرَنجِ هَمّي وَفــيكَ
تَأَمُّلي وَلَكَ اِنتِصابي
سَأَمضي وَالسَلامُ عَلَيكَ
مِنّي مَغيبـي لَـيلَتي وَغَداً إِيابي
كما أن لصفي الدين الحلي
نونية جميلة ذكر فيها لعبه مع "غزال" من الترك ، وفوزه برهانٍ كان
بينهما ، وفيها وصف جميل لطريقة اللعب :
قالَ لي السودُ لِلأَسـودِ وَذي البي ضِ لِمَن يَبتَغي بَياضَ اللُجَينِ
فَصَفَفنا الجـَيـشَـينِ تُركاً وَزَنجاً وَاِعتـَبَرنـا تَقابُلَ العَسكَرَينِ
فَاِبتَداني بِدَفعِهِ بَيــدَقَ
الفِــر زانِ مِـن حِرصِهِ عَلى
نَقلَتَينِ
فَعَقَدتُ الفـِرزانَ مَعَ بَيدَقِ
الصَد رِ وَسُقتُ الفيلَينِ في الطَرَفَينِ
فَتَدانى بِالـرُخِّ بيـتاً وَأَجــرى خَيلَهُ بَيــنَ مُـلتَقى الصَفَيّنِ
ثُمَّ شاغَـلـتُهُ وَأَرسَـلتُ فـيلي
مِنجَنيقاً يَرمي عَلى القِطعَتَينِ
فَأَخَذتُ الفِرزانَ حُـكـماً
وَوَلّى رَخُّــهُ ناكِصاً عَلى
العَقِبَينِ
ثُمَّ سَلَّطتُهُ عَلى الشاهِ وَالــرَخ
خِ فَعَجَّـلتُ أَخـذَهُ بَعدَ ذَينِ
ثُمَّ ضايَقتـُـهُ فَـلَـم يَبقَ لِلشا هِ عَلى رُغمِـهِ سِـوى بَيتَينِ
فَمَلَكتُ الأَطـرافَ مِـنهُ وَسلَّط تُ عَلَيهِ تَطــابُقَ الـرَخَّينِ
ثُمَّ صِحتُ اِعتَزِل فَشاهُكَ قَد ما تَ بِلا مِريَةٍ وَقَد حَــلَّ ديني
ومن الظواهر اللافتة للنظر
في ما أسميه – إن جاز لي – شعر الشطرنج
ظاهرة التباهي بملاعبة الشاعر لشادن أو رشا أو غزال من مليحات الجواري بالشطرنج ،
ويبدو أن معرفة اللعب بالشطرنج من الصفات المحببة في الجواري ، وفي ذلك يقول أحمد
بن المأمون في أبيات لطيفة :
ومليحٌ علَّمتُه لعـب الشطرنج حتى اهتـــدى وهامَ بِلُـطفه
فغَدا جـاهـداً يَرومُ
اغتيالي حيث ذابَ الفؤادُ من حُسنِ
وصفِه
فغَزا الشاهَ من جيوشي بحزمٍ
مــا كـفاهُ قتلي بِصارمِ طرفِه
كيــف أقوى لِمُثلتينِ فرِفقاً
بقَتيلٍ وراعِ حـالـةَ ضُــعفِه
كذلك راهن ابن دانيال
الموصلي ساحر الألحاظ في قبلة إن فاز عليه :
لَعِبْتُ بالشّطرنجِ مَعْ ساحرِ ال ألحــاظِ ألمى أهيفِ القدِّ
راهنــتُهُ في قُبــلةٍ يَشتفي
بها فؤادي من جوى الوَقدِ
ويقول آخر :
ولاعَبتُها الشِّطرَنج خَيلى تَرَادَفَت ورُخّى عَليها دارَ بِالشاهِ بالعَجَل
في حين أن ابن نباتة المصري
يقول :
أفديهِ لاعب شطرنجٍ قد اجتمعتْ
في شكلِه من معاني الحسنِ أشتات
عيـــناهُ منصوبةٌ للقلبِ غالبةٌ والـخدُّ فيــهِ لقتل النفس شامات
إن استخدام اللفظة (شامات)
في هذا الموضع لطيف جداً ، حيث يمكن لنا التلاعب بالكلمة (شامات) من خلال فصل
جزئيها لتصبح (شاه مات) وهي رديف لكلمتنا المعاصرة (كش ملك ) أي مات الملك .
ومن الذين رغبوا في لعب
الشطرنج أمير تونس محمد الرشيد باي (1711 - 1759 م) الذي عدها ضمن سبعة على المرء
اللجوء إليها حين حلول الشتاء :
عَليك بالسبع إِن وافاك وَقت شتا وَلا تصخ لعذول قَد غَوى فَعَوى
بشمعة حَول شطرنج وَ شقـشَقة
شَــبابة وَشَراب شادن وَشوا
في حين يرى ابن الرومي أن " لاعبه "
لا يلعب بالحجارة فحسب لكنه يلعب بأنفس اللاعبين حين يقول :
وأرى أنّ رقــعةَ الأَدَمِ الأحْ مر أرْضٌ عَلَّلتها بدماءِ
غلطَ الناسُ لست تلعب بالشِّط
رنج لكن بأنفُس اللُّعباءِ
ويرى المعري أن مهارة
" لاعبه" تصل حد أن يهم فرس الشطرنج في يده بالصهيل ، فلن يستطيع أحد
تحديه ، كيف وحتى البيادق في كفه يغلبن الرخ والفيل ، ويردي الملك ولو كان مكللاً
بالتاج والإكليل :
أيّها اللاعِـبُ الذي فَرَسُ
الشِّطْ رَنْجِ هَمَّتْ في كفّه
بالصّهيل
مَنْ يُـبـاريكَ والبيَاذِقُ في كَفْ فَــكَ يَغْلِبْنَ كلّ رُخٍّ وفِيل
تَصْرَعُ الشاهَ في المَجالِ ولو جا ءَ مُرَدّىً بالــتاجِ والإكْليل
ومن طريف شعر علي الغراب
الصفاقسي قوله :
لله بالشّطـــرنج بتُّ مُلاعبا
لمــهفهف في حًسنه مُنتاه
أنا أشتهي يحيي الفؤاد برشفة
من فيه وهو يُريدُ موت الشّاه
وعلى النقيض من ذلك فإن
هناك من الشعراء من ذم الشطرنج وتناولها بالقدح ، كابن النقيب الذي يرى "
تافهاً مضمحلاً " يظن الشطرنج قدحاً معلى :
لستُ أنسى وقد تملك شطرنجاً
على الوهم تافهاً مضمحلا
فغدا قابضاً علـى قَصْبِ سَبْقٍ ويظنُّ الشطرنج قِدحاً معلّى
فكأنّ الفرزين حــقاً و زيراه
وكـــلٌّ ولاّه عَقْداً وحَلاّ
وكأنَّ الشاهَيْنِ ملكان في أَسْ رِ يديه سَبـاهما الملكُ طِفْلاَ
أما يحيى الغزال فقد اغتم
من عشق صديقه للشطرنج لأنها عمل في غير بر قد أسسها "شيطان رجيم" ، وهي
لعبة ذوي الشأن والأغنياء ، فهي سرور قليل لا يدوم :
غَمَّني عِشقُكَ لِلشَــط
رَنجِ هَذا يا اِبرَهيمُ
عَمـَلٌ في غَـيرِ برْ رٍ وَاِختِلافٌ وَلُزومُ
إِنَّما أَسـَّسَـها
وَيْ حَكَ
شَيطانٌ رَجيمُ
هَبكَ فيها أَلعَبَ الـنا
سِ فَماذا يا حَكيمُ
إِنَّما هِيَ لِأُنــــاسٍ
شَأنُهُم شَأنٌ عَظيمُ
مَلِكٌ يُجــــبى إِلَيهِ
أو وَزيرٌ أَو نَدـيمُ
هَل سِوى شَيءٍ يَسيرٍ مِن سُرورٍ لا يَدومُ
بالإضافة إلى كل ما سبق فإن
الشعراء قد تناولوا الشطرنج من جانب آخر ، وهو جانب الرمزية والدلالات فيها ، فهي
ترمز لانقلاب الأحوال في الدنيا ، و
انقلاب الدنيا على ذوي الشأن فيها ، وتقلبات الدهر الغريبة ، كما تتقلب الحرباء ،
وفي ذلك يقول ابن اللبانة :
والدهر في صبغة الحِرباء منغمس
ألوان حالاته فيــها استحــالات
ونحن مـن لعب الشطرنج في يده
وربمــا قُمــرت بالبيدق الشاة
انفض يديــك من الدنيا وساكنها
فالارض قد أقفرت والناس قد ماتوا
ومن مقطوعة يقارن المتنبي بين معارك الشطرنج ،
ومعارك الواقع ، يرى أنْ لو كانت حروب الدنيا كحروب الشطرنج "لباقينا "
مع الدهر الجبال .... ولكن هيهات :
أرى الشطرنج لو كانت رجالا
تهـزُّ صفائحاً وقناً طِوالا
ولكني أرى خـشـباً ضعيفاً
إذا شهد الوغى لم يَدع آلا
فلو كنا نحارب مثل هــذا لباقينا
مـع الدهر الجبالا
ولكنها عند الخيام شبيهة
القدر فقال :
إنما نحـن رخاخ القضاءْ ينقلنا في اللوح أنى يشاءْ
وكل من يفـرغ من دوره يلقى به
في مستقر الفناءْ
وشبه حافظ إبراهيم "مهجوه " الذي لعبت
به أيدي بطانته بحجر الشطرنج الذي لا يملك من أمره شيئاً ، فهو مجرد أداة بين أيدي
المتبارين :
لا تَعجَبوا فَمَليكُكُم لَعِبَت بِهِ أَيدي البِطانَةِ وَهوَ في تَضليلِ
إِنّي أَراهُ كَأَنَّهُ في رُقعَةِ ال شِطرَنجِ أَو في قاعَةِ التَمثيلِ
ويعجب المحبي من أمر الناس
، فيقسمهم إلى ثلاثة أقسام : عابد جاهل ، وعالم مفرط ، و (لا هذا ولا ذاك ) فهم مثل
فيليّ الشطرنج كل واحد يسير على لون واحد فقط ، إما أبيض وإما أسود فلا يلتقيان
أبداً :
والناسُ إمَّا ناسِكٌ بجَهْلِه
أو عـالمٌ مُفَرِّطٌ أو لاَ ولاَ
كأنهم أفيالُ شِطْرَنْجٍ فلا
يُظاهِر المرءُ أخاه في عَنَا
ويتأفف أبو العلاء المعري
من الدنيا التي بلغ من شأنها أن تطاول فيها من لا شأن له على سيده ، كما يسرت
الشطرنج للبيدق الفتك بالفرزان :
أُفٍّ لِدُنيــانا وَأَحـزانِها خَفَّفتُ مِن كِفَّةِ ميزانِها
وَتِلــكَ دارٌ غَيرَ مَأمونَةٍ أَولِعَ ضاريها بِخَزّانِها
في بُقعَةٍ مِن رُقعَةٍ يَسَّرَت لِلبَيذَقِ
الفَتكَ بِفِرزانِها
وقال بدر الدين بن الصاحب :
تأمل تر الشطرنج كالدهر دولةً نـهاراً وليلاً ثم بؤساً وأنعما
محركها باقٍ وتفنى جميعــها
وبعد الفنا تحيا وتبعث أعظما
ورأى سليمان الصولة في
المال وزيراً ، وكل شيء دونه ما هو إلا بيدق ، فالجاه " شاه" :
زرت ابن شمــعايا و قلت لدرهمي
كن فرزه فالفرز بعدك بيدق
وخرجت عن فرسي التي حسدت ولم
أتـرك بشاه الجاه فيلاً يدبق
ويرى شوقي أن الملوك خاضعة
" لممدوحه" ، وأن الحرب في نظر "ممدوحه" مجرد رقعة شطرنج يزاولها
ببنان عابث ، ليس بالحجارة فحسب بل باللاعبين أنفسهم :
وُضِـعَ الشَـطـرَنجُ فَاِسـتَقبَلتَهُ بِبَنانٍ عــابِثٍ بِاللاعِـبـين
فَإِذا المَلكانِ هَـذا خـاضِــعٌ لَــكَ في الجَمعِ وَهَذا مُستَكين
صِدتَ شاهَ الروسِ وَالنِمسا مَعاً مَن رَأى شاهَينِ صَيداً في كَمين
في حين يحث ابن خاتمة
الأندلسي علىهجر الأوطان والتجوال في بقاع الأرض سعياً نحو العلا ، فبيدق الشطرنج
يعود من تجواله وزيراً ، وهذا ما يحصل في الشطرنج بالفعل :
جُلْ في بِلادِ اللهِ تَحْوِ العُلا ولْتَجْتَنِبْ أهلاً وأوْطانا
فَبَيْدَقُ الشّطْرنْجِ مِنْ فَوْرِهِ يَعُودُ بالتَّجوالِ فِرْزانا
بينما يطلب الشاعر التونسي
محمود قابادو من ممدوحه أن يمنحه رتبة ترفع قدره وتكسبه عزاً كما يعتز البيدق حين
ينقلب وزيراً :
أنلـني يـا خير البــرية رتبة
تــرفـعني قدرا و تكسبني عزا
فاعتز في أهلي كما اعتز بيدق
على سفرة الشطرنج حين غدا فرزا
ولما نظر ابن الرومي إلى
شَعر هامته ، وجد أن اللونين قد تقاسما شعره فقال :
حلّ في صحن هامتي منه لونا
ن كما حلّ رقعةً شَطرنجُ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق